السبت، أبريل ٢٥، ٢٠٠٩

عائد من دارفور




عائد من دارفور

حطت طائرة وفد اتحاد الأطباء العرب فى مطار الخرطوم وغطت حرارة استقبال الوفد المصرى الطبى من قبل أهلنا فى السودان على شدة حرارة الطقس فقد اسقبلنا بحفاوة بالغة فى وقت قرر السودان طرد عدد من المنظمات الدولية التى كان يتهمها باستغلال الوضع الإنسانى والصحى فى دارفور للتجسس عليه لصالح جهات أجنبية معادية
يلفت انتباهك من الوهلة الأولى المظاهر الاسلامية التى باتت قاسما مشتركا فى الحياة فى السودان فعلى طائرة الخطوط الجوية السودانية تجد المضيفات محجبات ويحرص كابتن الطائرة على ترديد دعاء السفر أثناء انطلاق الطائرة وهذا مالاحظناه فى استقبال كل المسئولين السودانيين لنا والمؤتمرات الصحفية التى حضرناها حيث يبدأون بقرآة القرآن الكريم وينتهون به ويستشهدون به فى حديثهم اضافة الى الأحاديث النبوية والتركيز على وحدة وادى النيل ودور مصر التاريخى فى السودان
كرم أهل السودان كان حاضرا فى كل مناسبة ولم يفارقونا لحظة واحدة وعملوا على راحتنا ولو جاز التعبير لقلنا كرما سودانيا بدل القول (كرما طائيا) نسبة لحاتم الطائى الذى يضرب به المثل فى الكرم العربى
غادرنا الخرطوم بعد طول انتظار لمدينة الفاشرعاصمة ولاية شمال دارفور والتى تبعد أكثر من ألف كيلو مترغرب مدينة الخرطوم بطائرة خاصة صغيرة ولم يغط على إزعاجها وشدة صوت محركاتها وارتفاع درجة الحرارة داخلها سوى المشاهد البديعة من الطائرة لأرض السودان حيث التقاء النيلين الازرق والأبيض وصحراء دارفور حيث الوديان والخضرة على الرغم من أن الوقت ليس موسم نزول الأمطار التى لو هطلت لاخضر كل شئ على أرضه الخصبة حيث سلة عذاء العالم التى لم تستثمر حتى الآن بالصورة المطلوبة
يلفت انتباهك من الوهلة الأولى عند دخول بيت الوالى فى مدينة الفاشر عبق التاريخ وتنظر وكأنك فى مملكة بلقيس أو ربما فى قصر شجرة الدر , فالبيت على بساطته ملئ بالخضرة التى تسرح فيها الغزلان والطيور ويداعب أذنيك صوت الطاووس ويلتقى الوالى بنا مع وزرائه وقائد شرطتة فى وجود الخدم والحشم
توزع الوفد الطبى وبعض الإعلاميين المصريين الذين رافقونا من القاهرة فى اليوم التالى من وصولنا لمدينة الفاشر على ثلاثة أماكن , مجموعة بقيت فى الفاشر , وبعد أن استأنفت الطائرة رحلتها نزلت المجموعة الثانية فى مدينة جنينه عاصمة ولاية غرب دارفور بالقرب من الحدود السودانية التشادية والثالثة فى مدينة ديالا عاصمة ولاية جنوب دارفور التى نزلت فيها واتخذنا بيتا كانت تسكنه منظمة أمريكية مطرودة مقرا لإقامتنا , وعلى الرغم من الصعوبات التى واجهتنا لممارسة عملنا تحديدا فى تلك المدينة , إلا أن مجموعة من الأطباء توجهت فىاليوم التالى الى معسكرات النازحين بالقرب من المدينة والذى يبلغ عددهم أكثر من 300 ألف نازح حيث مارست عملها على أكمل وجه
انطلقت بنا سيارات الجيب رباعية الدفع فى طرق سالكة وغير ممهدة فى صحراء دارفور وعلى رغم من وجود جبل نيالا الصغير الا أن كل المناطق بعد ذلك رملية طينية مسطحة وأغلبها أخضر ملئ بالعشب , ونسير بالسيارة فى توازى مع وادى دارفور الأخضر الممتد والملئ بشجر المانجو المصطف فى مشهد خلاب , لكن ذلك لايعنى اكتمال ثلاثية الماء والخضرة والوجه الحسن فالسكان فى تلك المنطقة القبلية ومنهم النازحين ليسوا فى أحسن حال وقلما يجدوا الماء برغم توفره فى جوف الأرض بسبب قلة الابيار والمضخات ناهيك عن الحرب الضروس التى شتتت شملهم وفرقت جمعهم والأوضاع المعيشية والصحية الصعبة التى يعيشونها
أنشأت المنظمات الوطنية السودانية بالتعاون مع اتحاد الأطباء العرب ونقابة الأطباء المصرية والحكومة السودانية مراكز صحية عديدة بجوار معسكرات ايواء النازحين لتوفر الرعاية الصحية لهم , وعملنا فى مركز صحى يسمى مركز صفر بجوار معسكرى كالما وبليل للنازحين وتعاملنا مع عدد ضخم من المرضى قمنا بالكشف عليهم وتقديم يد العون والأدوية لهم بالتعاون مع الأطباء والممرضين السودانيين فى ملحمة وسباق مع الزمن حتى نقدم أكبر خدمة ممكنة فى الأيام القليلة لرحلة الأطباء العرب التى استغرقت عشرة أيام منها ثلاثة أيام ذهبت أدراج السفر ذهابا وإيابا
سبب الصراع فى دارفور
تبلغ مساحة دارفور فى غرب السودان أكثر من نصف مليون كيلو متر مربع وبها ثلاث ولايات شمال وغرب وجنوب دارفور ويبلغ عدد السكان أكثر من 6 مليون نسمة يعيشون على الرعى والزراعة وكل السكان من المسلمين السنة وأشهر السلاطين الذين حكموا دارفور السلطان على دينار الذى كان يكسو الكعبة المشرفة سنويا ويوفر الغذاء لأعداد كبيرة من الحجاج فيما كان يعرف عند سكان الأقليم بقدح السلطان على دينار والذى يعرف الآن بأبيار على , وأغلبية القبائل إفريقية وليست عربية تنتمى أصولها لتشاد وأفريقيا الوسطى مثل الفور والزغاوة والداجو والتنجر ويتكلمون لغات محلية بالإضافة للعربية وكانو يعيشون قبل الحرب فى قرى مستقرة فى شمال دارفور تعيش على الزراعة أما القبائل العربية فمنها مهرية والرزيقات والمحاميد ويعيشون على الرعى وهم رحل غير مستقرين فى قرى ثابته ويسكنون جنوب دارفور , وكانت القبائل العربية التى تعيش على الرعى فى مناوشات دائمه مع القبائل الإفريقية التى تعيش على الزراعة الثابته بسبب تعدى الماشية على الأراضى الزراعية والمياه وكانت الخلافات تحل فى حدود القبيلة , لكنها تصاعدت منذ عام 2004 بسبب التدخلات الخارجية وخصوصا من قبل العدو الصهيونى وأمريكا وفرنسا حيث تم تسليح هذه القبائل مما أدى الى حرب ضروس أكلت الأخضر واليابس وأدت الى نزوح مئات الآلاف من السكان يعيشون الآن فى معسكرات ايواء حول عواصم ولايات دارفور الثلاث , ويمكن اجمال أسباب الحرب فى الآتى
1 – العصبية القبلية التى تحكم قبائل السودان , فالولاء أولا للقبيلة ثم للدين ثم للوطن فأصل الصراع كانت مناوشات تحدث بين القبائل بسبب المراعى والمياه ثم تطورت الى حرب شامله, ومما عرفناه ونحن هناك أن حربا ضروسا اندلعت بين قبيلتين بسبب النزاع على فرس , قتل فيها المئات من الطرفين مذكرين بحرب داحس والغبراء فى الجاهلية قبل الاسلام
2 – التدخلات الخارجية من قبل الدول الاستعمارية لأطماع كبرى فى ثروات السودان وبخاصة دارفور الغنية بالبترول واليورانيوم والمساحات الشاسعة الصالحة للزراعة
3 – تغذية التمرد فى دارفور من قبل المتمردين فى جنوب السودان ( حركة تحرير شعب السودان ) والتى نزح اليها عدد كبير من الجنوبيين أكثرهم من المسييحييين
4 – ضعف التنمية فى مناطق دارفور ومما يعتبره السكان تهميشا لهم من قبل الحكومة السودانية حيث لايوجد بنية تحتية أساسية ومعظم السكان يعيشون فى فقر شديد
5 – ظهور حركات التمرد وتضطر الحكومة السودانية لاعطائهم بعض المزايا والمناصب لفض التمرد أثناء المفاوضات مما يؤدى لانشقاق داخلى فى هذه الحركات للحصول على هذه المزايا فتصنع المزيد من هذه الحركات المتمرده مما يضاعف المشكلة
6 – البعد الدينى للصراع , حيث تنتشر بكثرة الخلوات ( مدارس حفظ القرآن ) حيث يدخل الطفل وعمره خمس سنوات ويمكث فى هذه المدارس ثلاث سنوات يحفظ القرآن تلاوة وتجويدا بمختلف القراءات ويعيش التلاميذ فى اقامة كاملة فى هذه الخلوات على العصيد ( الدخن وهو دقيق الذرة – الزيت – البصل ) وهو فطارهم وغداؤهم وعشاؤهم فى شظف للعيش وفى انتظار مساعدة أهل الخير لهم , والعجيب أن التلاميذ يعيشون فى وئام كامل على الرغم من قبائلهم المتصارعة حيث الولاء اولا للقبيلة قبل الدين وهذا دليل على ضعف الفهم للاسلام والقرآن برغم عشرات الآلاف من حفظة القرآن وهى أعلى نسبة للحفظة على مستوى العالم الاسلامى , والمراد هو القضاء على هذه المدارس الأصيلة والتى لوفقهت القرآن لكان لها بعدا آخر فى خدمة الاسلام والمسلمين
دور المنظمات الأجنبية
قامت الحكومة السودانية بطرد 14 منظمة أجنبية أتهمها السودان بالتجسس لصالح جهات أجنبية وكانت تقاريرها عاملا أساسيا فى اصدار مذكرة اعتقال البشير من قبل المحكمة الجنائية الدولية والغريب ان هذه المنظمات لم تكن تقدم الخدمة الطبية المناسبة للسكان هناك غير انفاق ملايين الدولارات على رواتب أعضاء هذه المنظمات وعمل برامج تنقل السكان من الثقافة الاسلامية التى تعودوا عليها الى الثقافة الغربية الغريبه عليهم باسم حقوق المرأة والثقافة الجنسية وعدم الارتباط بأى دين أو تقاليد اجتماعية مستغلين حاجة الناس الماسة للمساعدة , ووقع ضرر كبير على هذه المنظمات بسبب طردها حيث توقفت مصالحها ومآربها ضد شعب دارفور ولم تحدث أى كارثة أو حتى مشكلة انسانية أو أدنى فراغ بسبب طردها اللهم ان كان رفض أحد أبرز المتمردين وهو عبد الواحد نور الدين الذى يحتفظ بعلاقات قوية مع العدو الصهيونى دخول أى مساعدات طبية أو انسانية من الحكومه السودانية او من المنظمات العربية لمعسكر كالما للنازحين الذى يسيطر عليه بالكامل ويقطنه أكثر من 98 ألف نسمة وذلك انتظارا لحدوث كارثة فيه للضغط الدولى على الحكومة السودانية لعودة المنظمات المطرودة ومن ثم عودة المصالح المشتركه بينه وبين هذه المنظمات , والجدير بالذكر أن الجبش السودانى ينتشر بكثافة فى كل أرجاء دارفور ويسيطر عليها تماما غير أنه يرفض دخول المعسكرات التى يسيطر عليها المتمردون عنوة خوفا من حدوث كارثة وتكون مدعاة للتدخل الدولى وتتبنى الحكومة الحلول الهادئة مع حركات التمرد كخيار أفضل
مزاعم الإغتصاب فى دارفور
قمنا بتقديم الخدمة الطبية لعدد كبير من السكان النازحين من مختلف بقاع دارفو فى المعسكرات والمستشفيات وسألنا السيدات عن مزاعم حدوث عمليات اغتصاب بشكل كبير لهن غير أنهن نفين تماما حدوث هذه المزاعم وبخاصة السيدات اللاتى ينتمين للقبائل الأفريقية فيما عدا بعض الحالات البسيطه وكان سببها الاختلاط داخل المعسكرات وبعض قطاع الطرق الذين استغلوا فترة نزوح السكان للقيام ببعض عمليات النهب والاغتصاب
الجانجاويد
ومعناها الرجل الذى يحمل سلاحا ويركب الحصان , واتهم الغرب السودان بمساعدة الجانجويد الأمر الذى نفاه السودان بشدة , والجانجويد عصابات تكونت من قطاع الطرق من مختلف القبائل ربطتهم مصالح مشتركة حيث قامو بانتظام بالاغارة وهم ملثمون على القبائل عربية كانت أو افريقية بدافع النهب والسرقة وربما الاغتصاب ولم يسلم الجيش السودانى المتهم بتمويلهم من أذاهم حيث أغاروا على بعض معسكرات الجيش ونهبوها وانحسر نشاطهم الآن بصورة كبيرة بسبب مطاردة الجيش السودانى لهم
الوضع الصحى فى دارفور
ليست هناك أزمة كبيرة وبخاصة بعد طرد المنظمات الأجنبية , ولكن المراكز الصحية المنتشرة هناك فى حاجة ماسة للدعم والتطوير لاستيعاب الأعداد الهائلة من المرضى حيث تنتشر أمراض الاسهال والملاريا والتيفويد وأمراض العيون والغدة الدرقية وغيرها من الأمراض حيث الحاجة ماسة لوجود مولدات كهربائية فى هذه المراكز وعمل مستشفيات ميدانية بالقرب من المعسكرات يشرف عليها متخصصون فى كل المجالات وإقامة مستشفيات ثابته لنقل المرضى اليها وتوفير الأدوية والعلاج والأجهزة التشخيصية والمعامل وهذا واجب كبير لابد من استنفار طاقة نقابة الأطباء ولجنة الاغاثة الانسانية فيها واتحاد الأطباء العرب ولجنة الاسعاف والطوارئ فيه واستنفار همم الموسرين من المسلمين وبخاصة فى دول الخليج من أجل الدعم المالى
عدنا من دارفور حيث الحب والتعارف والوئام لكل أفراد الطاقم الطبى الذى كان يعمل هناك والذى قدم كل مايستطيع لأهلنا فى دارفور , لكن أحلامنا هناك فى تقديم خدمة طبية افضل لم تنقطع وعلى أمل فى عودة قريبة هناك مع خالص الأمنيات فى تحقيق مانصبو اليه بإذنه تعالى
د محمد يوسف

ليست هناك تعليقات: